شخصيات

تاريخ متى الرهاوي من الألف إلى الياء

أسدى الزميل محمود الرويضي (جامعة مؤته) ورفيقه عبدالرحيم مصطفى خدمة جليلة للباحثين في تاريخ الوجود الصليبي في الشام وفلسطين بعد ترجمتهما الموفقة لتاريخ متى الرهاوي، الذي يعد أهم المصادر التاريخية الأرمنية المعاصرة. كما اتبعا منهجية واضحة تجلت في ترجمة المصدر مع الالتفات الى أهمية الهوامش الموجودة في الترجمة الفرنسية والعمل على مقارنتها بما ورد في المصادر العربية واللاتينية والبيزنطية. كل ذلك مع إيراد النص الأرمني الأصلي وترجمته الفرنسية.

من غير المعروف تاريخ ميلاد متى الرهاوي (المنسوب إلى مدينة الرها – شانلي أورفا في تركيا الحالية)، وربما عاش حتى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي. وقام في مصنفه بتناول الفترة من العام 963 – 1136م. احتوى الجزء الأول على السنوات حتى منتصف القرن الحادي عشر، والثاني حتى بداية القرن الثاني عشر، بينما وصل الجزء الثالث حتى العام 1136م. ويذكر بعض الباحثين أن ما ورد في كتابه بعد هذا التاريخ إلى العام 1144م (عام استرداد المسلمين مدينة الرها) إنما هو من عمل تلميذه جريجوري الراهب.

من الواضح أن مؤرخنا قام بالتأريخ لحقبتين تاريخيتين، الأولى سابقة لعصره، اعتمد فيها على وثائق سريانية وبيزنطية، والثانية اعتمد فيها على مشاهداته الشخصية، وعلى شهود التقاهم.

أشار الرويضي إلى أن الرهاوي قد غلبت على كتابته الروح القومية الأرمنية، إضافة الى تأثره – كبقية المؤرخين الأرمن – بتقاليد الكتابة لدى المدرسة التاريخية البيزنطية.

استخدم متى الرهاوي العديد من المصطلحات الأرمنية لوصف القوى السياسية والعسكرية في عصره، وعلى سبيل المثال وصف المسلمين بالدادجيج، وهي كلمة أشارت إلى العرب أول الأمر، قبل أن يطلقها الأرمن على جميع الشعوب الإسلامية، وبخاصة على جيرانهم الأتراك. كما أشار إلى الخليفة الفاطمي في مصر بوصفه ماكير (في تحريف ربما لكلمة مغربي) العرب، وكذا إلى المصريين بوصفهم أفارقة، والسلاجقة باعتبارهم فرساً.

على أية حال جاء كتاب الرهاوي في ثلاثة أجزاء، عالج الأول الحملات البيزنطية بقيادة الأباطرة نقفور فوقاس وحنا تزيمسكس على بلاد الشام وأرض الجزيرة. ومناطق أضنه والمصيصة وقيليقية، وكذا على آمد وبلاد العراق.

بينما عالج الجزء الثاني وصول الصليبيين إلى أراضي الإمبراطورية البيزنطية ثم عبورهم البوسفور وانتصاراتهم على الأتراك السلاجقة بالأناضول. وكان من الطبيعي أن يقوم مؤرخنا بتبرير مساعدة بني جلدته للصليبيين الغزاة ضد خصومهم المسلمين والبيزنطيين أعداء الأرمن. وتميز مصنف متى الرهاوي بأن قدّم للباحثين معلومات جديدة عن العلاقات المتشابكة بين الصليبيين والأرمن تتميز عمّا هو موجود في المصادر التاريخية المعاصرة، وبخاصة في ما يتعلّق بمساعدتهم الأمير الصليبي بلدوين في تأسيس كونتية الرها. وكذا الإشارة إلى الخلاف السياسي بين الرها وأنطاكية عام 1108م، فضلاً عن دور الأرمن في إطلاق سراح القادة الصليبيين من الأسر الإسلامي.

غير أنه عاد من جديد لتفسير نجاح الحملة الصليبية الأولى في احتلال القدس عام 1098م، بأن ذلك كان تفسيراً لنبوءة القديس نرسيس الأرمني لرؤيا دانيال في الكتاب المقدّس حول الوحش الذي يصل لالتهام بقية الوحوش الموجودة بالمنطقة. وتحدث عن الحشود الصليبية التي كانت «…كأسراب الجراد التي لا تعد ولا تحصى. أو كحبات رمل البحر التي لا يمكن عدّها». ثم تناول وصول أمراء الحملة الأولى إلى القسطنطينية ومقابلتهم الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنينوس الذي اتفق على تقديم المساعدة لهم مقابل أن يعيدوا إليه المدن التي كانت تابعة لبيزنطة وقام الأتراك السلاجقة بغزوها في الأناضول. وتابع متى الرهاوي انتصارات الصليبيين على السلاجقة في نيقية وضوروليوم حتى دخول بلدوين مدينة الرها بدعوة من حاكمها الأرمني ثورس. ثم الاستيلاء على أنطاكية، وأخيراً اقتحام مدينة القدس بعد ارتكاب الصليبيين مذبحة رهيبة فيها. وهو يتفق هنا تماماً مع المؤرخين اللاتين المصاحبين للحملة: المؤرخ المجهول – فوشيه الشارتري – بطرس توديبود – ريمونداجيل، حول حدوث مذبحة مروّعة للمسلمين في المدينة على أيدي الغزاة الصليبيين.

ثم تناول متى الرهاوي في الجزء الأخير من كتابه استكمال النجاحات العسكرية للصليبيين بعد استيلائهم على القدس، وتتبّع محاولاتهم لإقامة كيان استيطاني واستعماري جديد في فلسطين وبلاد الشام. وكيفية انتصار بلدوين على الفاطميين عند ميناء حيفا عام 1102م. كما ذكر خروج الملك الصليبي في العام التالي من القدس لفرض حصاره الفاشل على مدينة عكا، وفي طريق عودته اشتبك مع اللصوص الذين أصابوه بجرح بليغ كاد أن يودي بحياته. كما عالج مسألة مساعدة الأرمن بواسطة الزعيم كوغ باسيل (بسيل الأرمني وفق المصادر الإسلامية) في تحرير الأمير بوهيموند النورماني من أسر الدانشمنديين.

ثم عرّج على حملة بلدوين كونت مدينة الرها الناجحة 1104م على الأتراك السلاجقة في مقاطعة ماردين، وأسره قائدهم فضلاً عن حصوله على أسلاب وغنائم هائلة. وكذا حملة الكونت بلدوين وجوسلين باتجاه مدينة حران والتحالف مع الأميرين بوهيموند وابن أخيه تانكرد. ثم أشار متى الرهاوي إلى انتصار أمير الموصل سقمان بن أرتق على الصليبيين، ونجاحه في أسر كلٍ من بلدوين وجوسلين، وقتل الآلاف من الجنود الصليبييين، قبل أن يفر كلٌ من بوهيموند وتانكرد إلى مدينة الرها.

وأشار الرهاوي في تاريخه أيضاً إلى وفاة الأمير سقمان بن أرتق ودفنه في القدس، وإلى وفاة بركياروق ابن سلطان السلاجقة ملك شاه بن ألب أرسلان. ثم عاد الى قيام أمير الموصل إلى مهاجمة الممتلكات الصليبية من جديد، حيث نصب معسكره أمام مدينة الرها وقت الحصاد، وباغت القوات الصليبية ليقتل المئات منهم. وعاد ليرصد مقتل أمير الموصل على أيدي الأتراك السلاجقة ليسيطر السلطان قلج أرسلان على أراضي الموصل والجزيرة. غير أن الأخير فشل في استرداد مدينة الرها من قبضة الصليبيين. بعد ذلك حاول السلاجقة التوغل في أراضي الأرمن غير أنهم ردوهم على أعقابهم تحت قيادة كوغ باسيل في موقعة بيرتوسيد 1108م. وعندما عاود السلاجقة الكرّة للثأر من الأرمن عاد كوغ باسيل إلى تحقيق نصر حاسم عليهم، وتمكن من أسر سلطان أرمينيا (صاحب مدينة خلاط)، وعاد محملاً بالغنائم. وهو الأمر الذي ساهم في تكريس صورة باسيل كبطل قومي للشعب الأرمني.

غير أن أهم ما ذكره متى الرهاوي في أحداث العام 1109م كان نجاح الصليبيين في الاستيلاء على مدينة طرابلس الشام، بعد حصار طويل من قبل بلدوين ملك بيت المقدس. غير أنه لم يشر إلى دور المدن الإيطالية في تقديم الدعم والمشاركة في الحصار البحري للمدينة. كما أشار أيضاً إلى مسألة مهمة عام 1118م وهي حملة بلدوين ملك القدس الفاشلة على مصر، ووفاته في طريق العودة. وكذلك الى وفاة الخليفة العباسي المستظهر بالله أبي العباس في بغداد في العام نفسه، غير أنه استمر في الخطأ الشائع لدى المؤرخين المسيحيين بعدما وصف الخليفة بأنه كان يمتلك «عرش محمد».

وتطرق بعد ذلك إلى نجاح الأمير بلق السلجوقي عام 1124م في أسر ملك القدس الصليبي لينضم إلى القادة الصليبيين الآخرين في قلعة خرتبرت. وتتبّع محاولات تحريرهم من الأسر بعد دفع فدية كبيرة لهم. وأشار الرهاوي إلى نجاح الصليبيين في الاستيلاء على ميناء صور عام 1124م، بعدما أشار إلى مساعدة الأسطول البندقي في الحصار البحري، من دون أن يشير إلى اتفاق دوج البندقية مع بطريرك القدس على حصول تجار المدينة على امتيازات تجارية في ميناء ومدينة صور.

وفي النهاية ورد ذكر أمير الموصل وحلب عماد الدين زنكي – محرّر الرها عام 1144م – لأول مرة في مصنف الرهاوي في أحداث العام 1128م بعدما رصد وصوله قريباً من المدينة.

وبعد الإشادة بالمجهود الهائل الذي قام به الزميل محمود الرويضي ورفيقه في ترجمة هذا المصدر الأرمني المهم إلى اللغة العربية والتعليق عليه لا يملك المرء إلا أن يتساءل حول الصفحات الباقية من سنوات مصنف الرهاوي الذي من المفروض انه استمر حتى أحداث العام 1136م. وهي غير موجودة أيضاً في الترجمة الفرنسية للمصدر نفسه. هل فقدت من الكتاب الأصلي؟

ولا يمكن الانتهاء من عرض كتاب متى الرهاوي من دون الإشارة إلى امتلائه بالحديث عن المعجزات والخوارق والعلامات التي فسرها المؤلف – كما معاصروه أيضاً من المؤرخين البيزنطيين واللاتين – بأنها كانت تدل في مجملها على ما سوف يتعرض له المسيحيون (الصليبيين والأرمن) من كوارث نتيجة غضب الرب عليهم. غير أننا يمكن أن نعد ذلك ملمحاً واضحاً لكل الكتابات المسيحية (كنسية وعلمانية) عند التعامل مع الانتصارات العسكرية الإسلامية، بوصفها لا تعود إلى القدرة والمهارة العسكرية للمسلمين، بقدر ما تعود إلى غضب «الرب» على عبيده المسيحيين نتيجة ابتعادهم عن دينهم، وارتكابهم العديد من الأخطاء والذنوب التي استحقوا على إثرها «عقاب الرب».

المصدر : مركز عين للدراسات والبحوث الإنسانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى